Forum - درس العنف

درس العنف

العنف
محاور الدرس

1) أشكال العنف.

2) العنف في التاريخ.

3) العنف و المشروعية.
تقديم المفهوم:

  يبدو أن مظاهر العنف كثيرة، فهو يمارس بأشكال متنوعة. هناك العنف الفزيائي من ذلك مثلا القتل و الاغتيال، لكن هناك العنف السيكولوجي أو الأخلاقي، مثل التعذيب عن طريق العزل. كما يوجد العنف الاقتصادي من خلال استغلال الطبقات أو البلدان الضعيفة. مثلما، أن هناك عنف الأنظمة التوتاليتارية ذو الأهداف السياسية و عنف العنصرية... إلخ و اللائحة طويلة إلى درجة تدفع إلى إثارة السؤال عما إذا كان هذا التعدد في صور العنف و أشكاله يعبر عن واقع ثابت أم أن استعمال مفهوم وحيد لا يعكس الإختلافات بين مظاهره ليس من الناحية الكمية فحسب. و إنما أيضا الجوهرية. إنه يوجد في كل مكان. و يمكن استعماله كموضوع للبروباغندا و إلا كعنصر من عناصر تاكتيك للوصول إلى السلطة و المحافظة عليها. إذا أدى العنف إلى تدمير الوجود برمته أو جزء منه، فإن العنف المنجز قد يكون أداة في خدمة مشروع يمكن ألا يكون عقلانيا، لكن شروط استعماله تبدو قابلة للعقلنة.

يمكن أن نسلم بصفة أولية أن العنف يوجد كلما كان هناك إلحاق للأذى بالغير بصفة جسدية أو نفسية، سواء أخذنا الغير كفرد أم كجماعة أو مجموعة بشرية.

إذا اعتبرنا هذا التعريف جيدا يجب أن نتصور العنف كواقعة تارخية  و يتحدد بإعتباره كمحرك أو دينامو للتاريخ من وجهة نظر معينة،  و يقوم على استخدام القوة بشكل غير مشروع لسبب من الأسباب. فكيف يمكن مراقبة العنف و التحكم فيه إذا كان يجب أن نبدأ بقبول حضوره الجذري في الإنسان؟

لقد أنتجت البشرية على مدى التاريخ آليات و وسائل للحد من العنف حيث يعتبر الدين و الثقافة كعنصرين كابحين للعنف بشكل معنوي و أخلاقي، على أن أهم تقنية للتحكم في العنف تتمثل في التنظيم السياسي للمجتمع ينبني فيه هذا الأخير في صورة مؤسسات حديثة تجتث العنف و تجعل استخدامه حكرا على جهاز الدولة. و في هذا السياق تبرز الديموقراطية كنظام يتطلع إلى القضاء على العنف و تدبير الخلافات و الصراعات السياسية بكيفية حضارية تقوم على قوة القانون و ليس على قانون القوة: فإلى أي حد نجحت الدولة الحديثة في القضاء على العنف؟ و هل من حق الفرد أو الجماعة ممارسة العنف من أجل فرض ما يعتقد أنه حق و عدل و خير؟

المحور الأول:

أشكال العنف:       ما طبيعة العنف؟

أفرز التاريخ البشري أشكالا متعددة من العنف، يمكن أن نميز ضمنهما بين نوعين، هما: العنف الجسدي و العنف الرمزي. كلاهما يمارس بطرق و وسائل متعددة تتطور باستمرار بقدر تطور العلم و التقنية. و ليس بديهيا أن تكون هذه الأشكال دائما ظاهرة، ذلك ن أن  أن العنف يتحقق أيضا من خلال أشكال متخفية مثلما هو الأمر في << نقص التغذية>> كما يشير إلى ذلك الفيلسوف الفرنسي إيف ميشو. يرى هذا الأخير أن إنتاج وسائل العنف يشمل << وسائل التسليح الفردي كما يشمل وسائل التخريب الجماعي>>.

و بما أن هذه الوسائل أصبحت في متناول الكل: أفرادا، جماعات، دولا، فإن العنف يصير أكثر فتكا. كما أنه أضحى أكثر اتصالا بالإعلام، على اعتبار أن هذا الأخير يسخره عن طريق نشره أو السكوت عنه. و يخلص هذا الفيلسوف إلى أن << تطبيق التقدم التقني  و العلمي على استعمال العنف و على كيفية تدبيره يمكننا من فهم.

أ- الفعالية المضاعفة التي تم التوصل إليها فيما يخص أشكال التحطيم و التخريب . فإبادة مجموعة بشرية ما. و إبادة مزروعات، و تهديد حياة الملايين من الناس تتطلب وسائل و تنظيما لم يسبق له مثيل.

ب- من حيث إن العنف أصبح قابلا للحساب و التحكم فإنه يمكن أن يحقق مردودية حيث أصبح من الممكن فرض السيطرة بواسطة التعذيب و القمع و التهديد به>>. فهل معنى هذا أن العنف هو ما يشكل ماهية الإنسان؟ هل الإنسان كائن عنيف بطبعه؟ هل يوجد العنف في طبيعة الإنسان؟ هذا السؤال يطرح نفسه بالنظرإلى قدم الظاهرة و استمرارها عبر التاريخ البشري، و هو يتعلق بما إذا كان الإنسان شغوفا بالتدمير؟ من يجيب الفيلسوف و عالم الإجتماع و المحلل النفساني الألماني إيريك فروم عن هذا السؤال بالقول:<< إن دراسة بعض الظواهر الإجتماعية و الطقوس الشعائرية القديمة قد توحي بأن النزعة التدميرية لها جدورها النظرية في طبيعة الإنسان . إلا أن التحليل المعمق لدلالات هذه الظاهرة ، يثبت أن كل الممارسات التي تؤدي إلى التدمير ليست ناتجة بالضرورة عن < شغف بالتدمير> . بالتالي فإن التدمير ليس سلوكا ينتج بصفة عملية عن غريزة تدميرية توجد في طبيعة الإنسان بقدر ما ينتج  عن دوافع ونزعات ليس من الضروري أن تكون طبيعية وذات علاقة بالممارسات والشعائر الطقوسية الدينية . يترتب عن ذلك أن الطبيعة البشرية ليست هي التي تولد العنف وإنما هناك < طاقة تدميرية كامنة تغديها بعض الظروف الخارجية والأحداث المفاجئة هي التي تدفع به إلى الظهور> .

وأما المقصود بالعنف الرمزي فهو مختلف أشكال العنف غير الفيزيائي القائمة على الحاق الأذى بالغير بواسطة الكلام أو اللغة أو التربية أو العنف الذهني ، وهو يقوم على جعل المتلقي يتقبل هذا العنف <<اللطيف>> مثال ذلك العنف الرمزي الذي تقوم به الإديولوجيا من حيث هو عنف لطيف وغير محسوس . يعرف عالم الإجتماع الفرنسي المعاصر بيير بورديو هذا الشكل من العنف بالقول أنه هو ذلك الذي < يمارس على فاعل اجتماعي ما بموافقته > وبلغة أخرى < فإن الفاعلين الإجتماعيين يعرفون الإكراهات المسلطة عليهم وهم حتى في الحالات التي يكنون فيها خاضعين لحتميات يساهمون في إنتاج المفعول الذي يمارس عليهم نوعا من التحديد و الإكراه> و بالنظر إلى أن هذا العنف رمزي فإنه يمارس بوسائل رمزية، أي التواصل و تلقين المعرفة.

المحور الثاني:

  العنف في التاريخ:          كيف يتولد العنف في التاريخ البشري؟

 يتحدد وجود كل مجتمع بشري – حسب ماركس- بوجود صراع بين طبقتين اجتماعيتين، الأولى تمتلك وسائل الإنتاج و الأرض و الثانية لا تمتلكها.

و ذلك منذ أقدم المجتمعات البشرية و أكثرها بدائية إلى المجتمعات الرأسمالية المتطورة . و هكذا ، فإن صراع الطبقات الإجتماعية يمكن أن يتخذ أشكالا فردية لا واعية عند الأفراد أنفسهم، كما قد يتخذ طابع صراع نقابي أو سياسي أو إيديولوجي واضح المعالم.

كتب الفيلسوف الألماني كارل ماركس في هذا السياق السابق: <<نلاحظ أنه منذ العصور التاريخية الأولى كان المجتمع في كل مكان مقسما إلى طبقات متمايزة ... ففي روما القديمة كان هناك سادة و فرسان، وأقنان و عبيد، و في العصور الوسطى كان هناك سادة و شرفاء، و سادة الحرف، و الحرفيون العاديون و أقنان، كما أن هناك داخل كل طبقة من هذه الطبقات سلم تراتبي خاص>> و قد أصبح الصراع الطبقي في المجتمع الرأسمالي بين البرجوازية و البروليتاريا.

و بالمقابل يرى المفكر الفرنسي روني جرار أن أساس العنف هو تنافس الرغبات ، و ذلك أن الرغبات الإنسانية تخضع لقانون المحاكاة،أي كرغبات في ما يرغب به الأخرون،<<كلما كانت رغبة الأخرين  (في شـيء ما) قوية و شديدة كانت رغبتي أنا أيضا قوية و شديدة (فيه). ينتج عن ذلك احتمال اندلاع العنف.

وهكذا فإن الصراع الإنساني يتولد عن صراع أو تنافس بين الرغبات. و إذا صح أن الرغبات تتشكل و تتطور من خلال المحاكاة، فإن العنف سيكون معديا من خلال انتشاره في الجماعة من فرد إلى أخر. و دواء هذا المرض المعدي هو القتل.

و  هذا الطرح يرجع بنا إلى تصور الفيلسوف الأنجليزي الحديث طوماس هوبز حول جذور العنف الذي يعتقد فيه أن مصدر هذا الاخير  ثلاثي، و يتمثل في: التنافس، الحذر ، الكبرياء، و هي أسباب توجد في الطبيعة الإنسانية. الأول يجعل الهجوم وسيلة لتحقيق((المنفعة))، الثاني وسيلة ((للأمن)) و الثالث وسيلة لحماية ((السمعة)).

على أن العنف له صلة أيضا بالتقديس و بالحقيقة، فهو يشكل إلى جانبهما << الأركان الثلاثة لكل تراث مشكّل و مشكّل للكينونة الجماعية>> كما سماها المفكر العربي محمد أركون الذي يشرح هذه العلاقة على نحو ما يلي:<< الجماعة مستعدة دوما للعنف من أجل الدفاع عن حقيقتها المقدسة. الإنسان بحاجة إلى عنف، و تقديس، و إلى حقيقة لكي يعيش و لكي يجد له معنى على الأرض. العنف مرتبط بالتقديس و التقديس مرتبط بالعنف و كلاهما مرتبطان بالحقيقة أو ما يعتقد أنه الحقيقة. و الحقيقة مقدسة و تستحق بالنسبة لأصحابها، أن يسفك من أجلها دم >>.

 المحور الثالث:

 العنف و المشروعية:   هل يمكن الإقرار بمشروعية العنف من زاوية الحق و القانون و العدالة؟

يرى عالم الإجتماع الألماني ماكس فيبر أن جوهر السلطة هو ممارسة العنف، و أنها وحدها تملك الحق و المشروعية في استعماله. من أين ينبع هذا الحق أو المشروعية؟ إنهما يرتدان إلى التعاقد الإجتماعي الذي بموجبه يتنازل الشعب للدولة عن حق استعمال العنف على أساس  نظام سياسي حديث يتميز بتقسيم السلط و مراقبتها لبعضها و بإجراء انتخبات بصورة منتظمة من أجل تشكيل هذه السلطة. و بالتالي يصبح العنف مرتبطا بالدولة الديموقراطية الحديثة  التي تضبط العنف و تحتكر استعماله. و يستشهد م.فيبر في هذا الصدد بقولة تروتسكي : << الدولة هي كل جهاز(حكم) مؤسس على العنف>> و هذه هي ميزة عصرنا الحالي، بحيث أنه لا يحق لأي كان استعمال العنف إلا عندما تسمح الدولة بذلك . فهذه الأخيرة << تقوم على أساس استعمال العنف المشروع >> و ستكون السياسة هي ((مجموع الجهود المبذولة من أجل المشاركة في السلطة أو من أجل التأثير على توزيع السلطة)).

لكن هل استخدام العنف حق مشروع لكل أشكال الدولة بما فيها الدولة الاستبدادية أم هو حق فقط للدولة القائمة على أساس ديموقراطي حديث؟

الإجابة عن هذا السؤال بالقول: إن عنف الدولة لا يكون مشروعا إلا عندما تكون هذه الدولة قائمة على أساس مشروع أي على التمثيلية، الإنتخابات، الحريات العامة، التعدديةالسياسية، و تداول السلط، و فصل السلطة. لكن يفترض هنا ان العنف هو الوسيلة الوحيدة للقضاء على العنف أي مواجهة القوة بالقوة. و ضد هذه الفكرة يطرح غاندي ((المفكر)) و الزعيم الهندي الشهير أن العنف رذيلة، و إذا كان العنف قانونا حيوانيا، فإن اللاعنف هو القانون الذي يحكم البشر. و يعرف هذا الأخير على نحو ما يلي:((الغياب التام للإرادة السيئة تجاه كل ما يحيى)) إنسانا كان أم حيوانا أم نباتا، << هو إرادة طيبة تجاه كل ما يحيى>> الصداقة ستكون حلا لمشكلة العنف، إذا أصبحت عامة بين الأفراد و الأمم. و ذلك ليس فيه تخلّ عن الصراع الإنساني، بل على العكس من ذلك فاللاعنف مناهض للشر لكن بوسائل الخير. إن القوة الحقيقية بهذا المعنى هي قوة الروح التي تستطيع أن تنجح في جعل اللاعنف ينتصر على العنف و السلام على الحرب و القوة الروحية على القوة الفزيائية.                                          

****************

***********

******

 تقديم اخر

                 لم تشتهر الفلسفة بشيء أكثر من اشتهارها بالسؤال, كونه الممارسة الفكرية التي يقوم عليها التفلسف أو جوهر الفكر الفلسفي.

هذا السؤال يلقي بنا نحو موضوع قديم متجدد في الفكر الفلسفي هو العنف ووضعه تحت منطق السؤال والنقد رغبة منا في معرفة أشكاله وعلاقته بالتاريخ, وكشف مدى مشروعيته.

ولتحقيق هذه الرؤية المعرفية يجدر بنا تحقيق نوع من التراكم المعرفي والمنهجي حول هذا المفهوم الذي ارتبط بوجود الإنسان.

يطرح هذا الموضوع إشكالا مركزيا يتأطر في إشكالية العنف هذه الوضعية المشكلة تتفرع عنها مجموعة من الأسئلة المحورية نجملها فيما يلي :

-         ما هي طبيعة العنف ؟

-         ماهي أشكاله ومظاهره ؟

-         كيف يتولد العنف في تاريخ البشرية ؟

-         هل يمكن الإقرار بمشروعية العنف من زاوية الحق والقانون والعدالة ؟

قبل الإجابة عن هذه التساؤلات المطروحة لابد من الإشارة إلى بعض الملاحظات التي تعتبر عتبات أساسية لفهم الموضوع.

إن درس الفلسفة هو درس تفكيري , ومن تم تتبلور ضرورة انجازه بطرق و أساليب تطابق روحه وماهيته, روح مادته الفلسفية كفاياته التربوية, فمادام الإنتاج المعرفي الفلسفي وأهداف تدريسه يتسمان بالسمة التفكيرية فإنه يصبح ضروريا تعليم الفلسفة وتعلمها بطرق وأساليب تتحدد بتلك السمة نفسها.

إذ هناك إجماع لدى المشتغلين بالتعليم الفلسفي على أن طريقة إنجاز درس في الفلسفة يقتضي تصور بيداغوجي شامل للعملية التعلمية الفلسفية من طرح إشكالي وتحليل للنصوص المعتمدة في الكتاب المدرسي, ومناقشة هذه النصوص وانتقادها من هذا المنطلق كان لزاما علينا تعريف موضوع العنف واستخراج مواقف وآراء الفلاسفة من خلال الكتب المدرسية الثلاث, زيادة على ذلك نقدم بعض التصورات النظرية والفلسفية التي يطرحها فلاسفة ومفكرون في تعاملهم مع ظاهرة العنف لأجل منح الدرس نوع من المناقشة والتحليل على أن هذه العملية تركناها في نهاية كل محور.

 فقد اتخذ العنف أشكالا متنوعة ومتعددة عبر تاريخ البشرية, حيث كان عنفا عضليا تجسد في                            صراع الإنسان ضد الطبيعة. وغدا عنفا رمزيا وثقافيا له عدة صور وطبائع.

هذه الصورة توضح لنا تلازم العنف للإنسان عبر التاريخ, ومن هنا تأتي صعوبة التخلص منه أو تجاوزه رغم كل الأشواط و المراحل الردعية التي عرفها من أجل ضبطه و تقنينه.

تعريف العنف :

نجد تعريف العنف من الناحية اللغوية : عنف (العُنْف) بالضم ضد الرفق، تقول منه: عَنُفَ عليه بالضم (عُنْفاً)، و(عَنُفَ) به أيضاً و(التعنيف) التعيير واللوم (الرازى 666هـ) ويتضح من التعريف اللغوي أن العنف لم يقتصر على الإيذاء الجسدي بل هو شامل للإيذاء الجسدي واللفظي على حد سواء.

أما من الناحية الإصطلاحية : العنف هو أي سلوك موجه بهدف إيذاء شخص أو أشخاص آخرين لا يرغبون فى ذلك ويحاولون تفاديه .(1)  ولقد أسهب الباحثون في تحديد مفهوم العنف كل من زاويته الخاصة.

و لعل أبرز تعريف أعطي للعنف, هو تعريف باربرا ويتمر : " العنف خطاب أو فعل مؤذ أو مدمر يقوم به فرد أو جماعة ضد أخرى .  (2)" بمعنى آخر العنف هو كل تعسف في استخدام القوة, أي الخروج عن الإطار المحدد والمتداول عليه. و حيث يعرفه جميل صليبا، في معجمه الشهير:"المعجم الفلسفي"، بكونه فعل مضاد للرفق، ومرادف للشدة والقسوة. والعنيف هو المتصف بالعنف. فكل فعل يخالف طبيعة الشيء، ويكون مفروضاً عليه، من خارج فهو، بمعنى ما، فعل عنيف. والعنيف هو أيضاً القوي الذي تشتد صورته بازدياد الموانع التي تعترض سبيله كالريح العاصفة، والثورة الجارفة. و العنيف من الميول:«الهوى الشديد الذي تتقهقر أمامه الإرادة، وتزداد سورته حتى تجعله مسيطراً على جميع جوانب النفي، والعنيف من الرجال هو الذي لا يعامل غيره بالرفق، ولا تعرف الرحمة سبيلاً إلى قلبه».

وجملة القول إن العنف هو استخدام القوة استخداماً غير مشروع، أو غير مطابق للقانون.

أما في معجم «قاموس علم الاجتماع»، فإن العنف يظهر عندما يكون ثمة فقدان «للوعي لدى أفراد معينين أو في جماعات ناقصة المجتمعية. وبهذه الصفة يمكن وصفه بالسلوك«اللاعقلاني». في حين يرى بول فولكي في قاموسه التربوي أن العنف هو اللجوء غير المشروع إلى القوة، سواء للدفاع عن حقوق الفرد، أو عن حقوق الغير«كما أن العنف لا يتمظهر بحدة إلا في وجود الفرد/المراهق في مجموعة ما».

 أما أندري لالاند فقد ركز على تحديد مفهوم العنف في أحد جزئياته الهامة، إنه عبارة عن«فعل، أو عن كلمة عنيفة». وهذا ما يدخل في نطاق العنف الرمزي…فأول سلوك عنيف هو الذي يبتدئ بالكلام ثم ينتهي بالفعل. وهكذا فتحديدات العنف تعددت واختلفت، إلا أن الجميع يقرُّ على أنه سلوك لا عقلاني، مؤذي، غير متسامح.

إن كلمة عنف تستعمل في مجالات مختلفة، وعلى عدة مستويات متباينة، و بحسب استراتجيات تعريفية متنوعة. إن العنف، في أول الأمر، وقبل كل شيء، هو ظاهرة يصعب تعريفها بدقة. وإذا رجعنا إلى المراجع الفلسفية و الأنثربولوجية، تجد أن العنف صعب التعريف، ولا يوجد تعريف واحد يعمل به باعتباره كذلك. فإذا نحن بحثنا، على سبيل المثال، في القواميس، و هي جزء من الحياة الاجتماعية، سنجد أن كلمة "عنف" تستعمل في حقول دلالية واسعة: "العنف" ضد الرفق؛ و نقول الأخذ بالعنف حين يأخذ المرء الشيء بالعنف؛ وتستعمل الكلمة بمعنى الإكراه؛ وهناك العنفوان بمعنى الشباب والقوة الخ، كما في الصحاح في اللغة للجوهري. ويأتي صاحب تاج العروس بنفس الدلالات، مستشهدا بالجوهري وغيره، ويزيد عليها الشدة و "العنفة"، و اعتناف الأمر بإنكاره. وهذه مجرد أمثلة فقط حيث يقترن العنف بالصرامة والألم والإيلام والزجر أو القمع، مثلا في الوعظ والتربية كما عند أبي حامد الغزالي في الإحياء؛ أو الإنهاك واستنفاذ القوة (في حالة الفرار من العدو حيث يجوز استنفاذ قوة الفرس)؛ واستعمال العنف من أجل النجاة من الخطر (الرازي). (3))

.وفي هذه الحالة تقترن الكلمة بالخطر والموت والأوجاع. وقد استعمل الرازي أيضا كلمة عنف للحديث عن الضغط والأوجاع التي يسببها خروج الجنين أو (المولود) من الرحم. (4)

 وإذا كان الجوهري و الزبيدي يستخدمان كلمتا عنف ورفق في سياق الكلام عن ركوب الخيل، أي في سياق ترويضها وتمرينها على الخدمة والطاعة، فإن بعض فلاسفة المسلمين يستعملونها في مجال العلاقات بين الناس، وخاصة في مجالي الحرب والسياسة. فالرازي يذهب، مرة أخرى، إلى أن اللجوء إلى العنف يكون عادلا بصفة عامة حين يكون المرء أو الجماعة مهددة بخطر؛ ويذهب ابن سينا إلى أن للعنف معنى إيجابيا حين يستعمله الحاكم للحد من انتشار الفساد في الرعية (5).

 أما استعمال العنف في الجهاد سواء في الفتوحات أو في الدفاع عن الأمة ضد عدو خارجي أو داخلي فهو مشروع عند علماء الإسلام. و من المعلوم، أخيرا، أن استعمال العنف وارد في التربية، وهو أيضا وارد ومطلوب في التربية الصوفية (كجهاد ضد النفس "الأمّارة بالسوء").

 كيفما كان الحال، فإننا نرى من خلال هذه الأمثلة أن كلمة عنف و ما يدور حولها من مرادفات ترتبط بكل مجالات الحياة، سواء الفردية أو الجماعية، العائلية أو القبلية أو السياسية أو الدينية.

إن تعدد المجالات الدلالية للمفردات التي تترجم "عنف" شيء معروف حتى بالنسبة للغات أخرى، فكلمة (Violence) بالفرنسية أو بالإنجليزية أو ( (GEWALT بالألمانية لها معاني يتعذر حصرها في معنى واحد، كما لاحظ ذلك، عن حق، بعض الباحثين (فرنسواز إريتي وإتيان باليبار، على سبيل المثال). فنحن أمام عدة تعريفات تختلف بحسب اختلاف استخداماتها و مقارباتها المؤطرة (بكسر الراء). و هو ما يجعلنا نقول، إننا أمام عدة مقاربات للعنف و لسنا أمام مقاربة واحدة و وحيدة. و كل مقاربة تعكس إدراكا معينا و أسلوبا في التشخيص و الاقتراح.

فهناك مقاربة تحدد العنف في استخدام وسائل الضغط التي تحد أو تعدم إمكانية الغير في الاختيار، بل وتعدم حتى إمكانيته في الهروب، أو في الانعتاق، أو في رفض الوضعية التي تفرض عليه.

وإذا كان مفهوم العنف قد عرف اختلافا و تمايزا على المستوى الإشكالي, فإن نفس الشيء انعكس على مواقف وتصورات الفلاسفة و المفكرين الاجتماعيين وغيرهم.

هكذا سنقف على كل موقف وتصور كل فيلسوف من خلال الكتب المدرسية, وذلك من خلال المحاور الثلاث الأساسية:

 1 – أشكال ومظاهر العنف.

 2 – العنف في التاريخ.

 3 – مشروعية العنف.

ففيما يخص المحور الأول نجد المواقف الآتية :

يتناول ايف ميشو أشكال العنف من حيث درجاته وتطوره عبر التاريخ, حيث يعرض إشكالا متعددة من العنف من نقص التغذية وهو أخف أشكال العنف إلى الإعدام الأكثر ضراوة.

وتعرض كذلك لبعض تمظهراته المختلفة كالعنصرية والاضطهاد والحروب الاستعمارية والأنظمة العسكرية والبوليسية.

ويوضح أن تكنولوجيا الوسائل لا تقتصر من تطورها على التسليح الفردي و لكن على وسائل التخريب الجماعي أيضا التي تتداول بين الدول.

كما يشير إلى أن العنف ملازم بالإعلام الذي يعمل على نشره أو تهذيبه أو السكوت عنها كالإرهاب والتهديدات الدبلوماسية.

في حين نرى أن بييربورديو يحدد أشكال العنف في العنف غير المادي والعنف غير المرئي, الصامت والسري من إلحاق الأذى عبر وسائل عدة كاللغة والتربية والإيديولوجيا.

والعنف الرمزي وهوعنف يمارس على فئة أو أفراد بالاتفاق والتواطؤ وبالتالي فهو سلسلة من الإكراهات التي تمارس عبر قنوات عدة تصبح فيها هذه الممارسة العنيفة شرعية من الناحية الاجتماعية وأي نشاط تربوي هو موضوعيا نوع من العنف الرمزي وذلك بوصفه عنف لطيف وغير محسوس.(الكتاب المدرسي المناهج).

ويعرض لورينتز موقفين فيما يخص تفسير النزعة العدوانية لدى الإنسان فالموقف الأول يقوم على فكرة أن العدوانية الإنسانية هي فطرية لارتباط الإنسان بالنوع الحيواني واشتراكه معه في الصفة العدوانية من أجل الحفاظ على البقاء. أما الموقف الثاني فيبين أن النزعة العدوانية عنه الإنسان هي نزعة مكتسبة أي أنه يكتسبها من العالم الخارجي ومن احتكاكه واندماجه مع الآخرين.

ويؤكد لورينتز أن عدوانية الإنسان هي مكتسبة وفي نفس الوقت فطرية لارتباط الإنسان بالحيوان.

في حين يقوم لنا فون كلوزفيتش مفهوم جديد لمعنى الحرب,فالحرب هي فعل une acte من أفعال القوة التي تسعى إلى إرغام الخصم على الخضوع والسيطرة والهيمنة عليه, لهذا فإنها توظف كل العلوم والصنائع في إنتاج وسائل وآليات حربية تكرس القوة كفعل عنيف.

ففكرة كلوزفيتش هي أن الحرب فعل مؤذ وعنيف يستخدم القوة كذريعة للسيطرة والهيمنة, إلى جانب هذا يشير إلى أن الحروب التي تعرفها الشعوب المتحضرة هي أقل عنفا من الحروب التي عرفتها الشعوب المتوحشة, وهذا راجع إلى حالة الاجتماعية والتطورات التي عرفتها هذه المجتمعات.(الكتاب المدرسي الرحاب).

يعالج ايريك فروم أشكال العنف ضمن تصور فلسفي وسوسيولوجي معاصر, وذلك من خلال استحضار مجموعة من الظواهر الاجتماعية وبعض الشعائر الدينية لدى مجموعة من الشعوب القديمة من أجل تبيان أن العرض الأساس من هذه الظواهر الاجتماعية ليس هدفها التدمير.

لأنها لا تحمل أي نزعة تدميرية بقدر ما تجسد رغبة فرد أو جماعة في العيش وتأكيد وحدتها.

في حين يعرض فرويد تصوره لمسألة العنف وشكلها الأساسي في إعطاء الإنسان أهمية كبيرة وذلك في بعده اللاوعي والمتمثل في الغرائز والأهواء و الميولات التي يرغب فيها هذا الإنسان.

ويقسم فرويد النزوع العدواني لدى الإنسان إلى قسمين : الأول نزوع فردي يتمثل في الغرائز الفطرية والطبيعية لدى الإنسان, والثاني نزوع عدواني جماعي يتجسد في الهجرات والغزوات, مما يخلق تهديدا يؤدي إلى الدمار و الانهيار.(الكتاب المدرسي المنار). وهكذا يتضح لنا بأن العنف تتنوع أشكاله من العدوان إلى الاستغلال والاستعمار و من الاشغال المتعبة إلى الاقتتال الفردي والجماعي والغزوات والهجرات. لكن تبقى العدوانية والحرب هما أبرز هذه الأشكال.

لكن مع التطور الذي عرفته المجتمعات ظهرت نظريات أخرى تفسر العنف خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية.

 النظرية الأولى تقرن العنف بالأخذ. فالعنف حسبها شيء طبيعي يفسر بحاجة الإنسان. و كانت الحاجات الأولى التي نظر لها المنظرون هي الحاجة للطعام، والحاجة الثانية هي حاجة الجنس، و الحاجة الثالثة هي الحاجة للاطمئنان. والعنف، حسب هذه النظرية، هو منع الغير من تلبية حاجاته وسد الطريق أمامه. و كان العنف في مظهره المعروف، أي الحرب، يصنف ويفهم كنوع من الصيد، وكأنه تطور لأحد أشكال الصيد. فيصبح الدافع إلى العنف هو الدافع البيولوجي، حتى تمنع الأخر من الأخذ: أخذ الغذاء أو النساء. فيصبح التنظير للعنف قائما على أساس بيولوجي. لكن مشكل هذه النظرية هو أن الدافع البيولوجي لا يمكنه أن يفسر الحرب، ولا يمكن أن يفسر الأخذ، سواء بالنسبة للطعام أو بالنسبة للجنس. فإذا كان الأخذ من أجل الجنس فقط، فإنه لا يفسر لنا تعدد الزوجات أو الحظايا. فهناك عامل آخر يجب البحث عنه. فلماذا يتعدى الأخذ من أجل الجنس القدرة التناسلية أحيانا؟ فيتعدى عدد الزوجات أو الحظايا العدد العادي ليحصل التناسل، وهو زوجة أو زوجتين أو حظيتن، ولكن ليست عشرين من الحظايا. فالمعروف في تلك المجتمعات أن تعدد الحظايا والزوجات أصبحت له معاني ودلالات أخرى غير تلك الدلالات والمعاني التناسلية. كما أن الأخذ من أجل الغذاء لا يفسر العطاء. فإذا كان العنف (الحرب) يفسر الأخذ، فهذا لا يفسر أنك تتحارب حتى تكدس الموارد الغذائية ثم تعطي ! و لا يمكن فهم هذا انطلاقا من نظرية لتلبية الحاجيات، بل يظهر هذا السلوك كاختيار مناقض للمبدأ الذي يحكمه. فالنظرية البيولوجية لا تفسر هذه العلاقات. وكان (لوروا كورهان) هو ممثل هذه النظرية حتى وفاته. و لا تنفي محدودية هذه النظرية الفائدة الكبيرة التي كانت لها، لأنها ساعدت، بقوة، على تصنيف الإنسان ككائن له حاجيات يحاول أن يلبيها بالشغل، أو بالحرب، أو باختراع الآلات. و كان هذا مهما، على كل المستويات. وطبعا، يمكن لهذا الانتقاد الذي انتقدته، أن يصدق على كل التوجهات الانتفاعية، بما فيها الانتفاعية الاقتصادية في تفسير العنف.

أما النظرية الثانية، فهي نظرية الأخذ والعطاء، أو نظرية التبادل. وهي نظرية قديمة. فقديما قيل ولا يزال يقال: إذا حضرت التجارة غابت الحرب. و قد عرفت هذه النظرية إغناءا كبيرا مع (كلود ليفي ستروس). و تتميز نظرية التبادل باستحضار بعد أساسي، كان غائبا في النظرية الأولى. فمشكلة (لوروا كورهان) والبيولوجيين هي أنهم لا يعتبرون ولا يرون، أن ظاهرة الأخذ هي دائما ظاهرة مقننة، وكونها كذلك يعني أنها محكومة بتقنين اجتماعي، وليس فقط بمبدأ تلبية الحاجة، سواء كانت حاجة إلى الغذاء أو إلى النساء، وخصوصا في الحالة الثانية. بنى (ليفي ستروس) نظريته للتبادل على مبدأ منع الزواج من المقربات /منع زواج المحارم. وهذا المبدأ، في نظره مبدأ إيجابي لأنه حين يمنع الشخص من الزواج من أخته،مثلا، فإنه يدفعه إلى تزويجها بآخر. وبالتالي يضمن هذا المبدأ التبادل، ويدفع في اتجاهه. فإذا كان المجتمع مبنيا على التبادل، فإن هذا الأخير يصبح هو أساس التجمعات البشرية. غير أن المشكل الأساسي هو أن نظرية التبادل لا تكفي لتفسير ما يجري في تلك المجتمعات، لأنها تحاول أن تبني أسس المجتمع على القاعدة، فقط. علما بأنه عندما تتأمل التبادل تجد أن التبادل نفسه يأخذ أوجها أخرى، بما فيها الحرب. فمثلا، من أجل الحرب يتم التفكير في تبادل الأزواج بين مجموعات قبلية كبيرة. فيصبح التبادل نفسه وسيلة من وسائل الإعداد للحرب، يصبح إستراتيجية حربية. فقانونيا وشرعيا، القاعدة هي المبدأ وهي الدافعة إلى التبادل، لكنها عمليا واجتماعيا، تفتح عدة مجالات، بما فيها مجالات التهييء للحرب و ممارسة العنف. فقانونيا، يمكن أن يقال: قانونيا، لابد من منع الزواج من المقربات حتى يكون التبادل ممكنا، لكن مقابل هذا، يمكن أن تقول، عندما كان التبادل ممكنا، أصبح من الممكن [أيضا] سوسيولوجيا و تاريخيا، أن تقوم بتبادل تحالفي من أجل الحرب. فالقاعدة تفتح التبادل، لكن التبادل نفسه ليس القاعدة الوحيدة للسيرورة التاريخية والسوسيولوجية للمجتمعات. فالتبادل كقاعدة، يمكن، أيضا، تاريخا و سوسيولوجيا، من أشياء تتعدى القاعدة؛ فالقاعدة تمكن من التبادل؛ والتبادل يمكن من الحرب. لهذا، يمكن القول: إن الشيء كقانون يجعل التبادل ممكنا، إذا رأيته من زاوية الجدلية التاريخية يعطي عكسه، يعطي الحرب بدلا من السلم، وتصبح الحرب والسلم شيئان ممكنان انطلاقا من قاعدة واحدة. و تكون الرسالة هي كالتالي: إذا أردت أن تتفتح و تغتني و تضمن التبادل، فلابد من أن تكبح رغبتك وشهوتك، و أن تحد من إرادتك. و هذا، يرجعنا إلى كلام آخر، هو أن التبادل باعتباره كبحا للشهوة، يمكن من بناء المجتمع والثقافة، و لكنه لا يضمن السلم. فالكبح يعطي إمكانية بناء الثقافة، ولكنه بناء يمكن أن يؤدي إلى عكس ما حددته القاعدة. وهذه هي الجدلية المفتوحة التي تحدثت عنها. فإذن، لا يمكن للعنف أن يعرف إلا بعكسه، انطلاقا من خطوط و حدود فاصلة، تعمل أيضا، كنقط اتصال تحرسها قواعد. لا يمكن للعنف أن يعرف إلا كوضعية نسبية مقارنة بالسلم إذا أخذناه، مثلا بوجه من وجوهه المركزية (الحرب). ونفس الشيء يصدق على السلم. فيصبحان (العنف والسلم) مخدومين ببعضهما البعض في طبيعتهما و هويتهما. كل مفهوم مخدوم بضده؛ و هذه هي الجدلية المفتوحة التي تجعلك تعرّف الشيء بضده، و لكن انطلاقا من عدم الإقرار بوجود حدود قبلية و فاصلة بينهما (الشيء و ضده)، إذ عليك أن تعترف بأن ذلك التعريف, هو تعريف قاعدي للعلاقة الجامعة بين الحدين. و عندما تفتح ذلك التعريف على التكوينات الاجتماعية التي جعلته ممكنا، فلا محالة أنك تعترف، في الأخير، أن السلم والعنف وجهان لبعضهما البعض. فكل واحد منهما يحمل الآخر في أحشائه. لهذا يمكنك أن تفسر كيف أن وصفك للآخر بالعنيف فيه عنف، أيضا، بل أكثر من هذا، يمكن القول إن جدلية العنف لا تقوم فقط على هذه التمييزات بين العنف و السلم كتبادل، بل تقوم على تمفصل آخر لا يقل أهمية في تحديد ملامح هذه الجدلية و هو تمفصل عنف داخلي/ عنف خارجي، أي عنف يتحدد انطلاقا من الدينامية الداخلية للجماعة، و آخر يتحدد انطلاقا من علاقة الجماعة بجماعة أخرى...

إضافة لهذين النظريتين ذو الرؤية الأنثروبولوجية للعنف , فإن هناك نظريات أخرى منذ العهد اليوناني إلى الآن.

أطروحة هيراقليط :
يرى هيراقليط أن العنف ضروري للعالم بل إنه أصل العالم و مبدأه، فلا شيئ يكون أو يولد بدون عنف ، فهو محرك العالم و محرك صيرورته ، فلكي يولد أي شيئ يجب أن يحذف شيئ آخر و يرفض ويقصى، يقول هيراقليط" الحرب أب كل شيئ و ملك كل الأشياء " الشدرة 53 . وبهذا المعنى فالعنف منتج ومخصب و ليس مدمرا و غير منتج، إنه بهذا المعنى الموت الذي يحمل في أحشائه الحياة .
لكن التصور الهيراقليطي يتميز بكونه ينسحب على الوجود برمته ولا يختص بالإنسان وحده ،تصور ينظر إلى العنف موضوعيا وليس ذاتيا.(6)
أطروحة فرويد:
أما بالنسبة لفرويد يطرح العنف بصفته الذاتية، أي كسلوك إنساني وبالأساس كرغبة تدميرية أو "ليبيدو سالب " يقول لاكان بهذا الخصوص " الليبيدو السالب الذي يعيد الإشعاع من جديد للمفهوم الهيراقليطي للاتوافق ". يؤكد فرويد على أن العنف و التدمير نزعة طبيعية في الإنسان تتعايش مع نزعة مناقضة لها يسميها نزعة الإيروس أو نزعة الحياة التي تدفع إلى الإبداع و الخلق لدى الإنسان .هده العدوانية أولية وأصيلة لدى الإنسان و غير محولة ثقافيا لدى الإنسان " إنها ليست دلك العدوان الذي يصدر كرد فعل عندما لا تتحقق رغباتنا ونحس بالإحباط جراء دلك . بل هي نزعة تلقائية لكل كائن عضوي نحو المستوى صفر أي نحو الموت، إذن فالكائن الحي مجهز بشكل فطري بالعنف.
لكن هدا التفسير غير كاف، فالعنف وإن كان طبيعيا في الإنسان، و يمكن تفسيره عقلانيا فهل يمكن تبريره عقلانيا في نفس الآن ؟ بمعنى آخر هل هو عقلاني؟ هل هو صادر عن العقل ؟ كما أننا يمكن أن نطرح السؤال هل هو فعلا فطري و أساسي أم أنه تابع لسبب آخر هو مصدره ؟ إنه ثانوي بالنسبة لسبب أساسي .(7)
أطروحة  إيريك فروم:
العنف ليس معطى طبيعي أساسي ،فعلم الأعصاب وعلم النفس الحيواني يبينان هده الحقيقة كما يؤكد على دلك عالم النفس الأمريكي( فروم ) ، إذ أن الحيوانات لا تكون عنيفة إلا في حالات معينة :
أ‌- عندما تعمل على الحفاظ على حياتها أو للصراع من أجل الغداء. وفي هده الحالة يكون العنف وسيلة فقط و ليس غاية .
ب‌- في حالة تعرضها للهجوم مع انعدام إمكانية الهرب بالنسبة إليها . وبهذا فالعنف هنا حالة دفاعية من أجل الحفاظ على الحياة . وبدلك فالعنف في هده الحالة نتيجة و ليس سببا ، ثانويا و ليس رئيسيا.
ت‌- العنف بين نفس النوع لا يؤدي إلى قتل الخصم ،وليس هناك تعذيب أو تدمير ،بل فقط تهديد يلعب دور التحذير فقط .
فالعنف في كل هاته الحالات وسيلة وليس هدفا وليست له أية قيمة في ذاته.(8)
أطروحة ستانلي ميلغرام:
كما استنتج عالم النفس الأمريكي ستانلي ميلغرام. من خلال تجربته الشهيرة حول (حدود الخضوع للسلطة) " على الرغم من أن النزعات العدوانية طبيعية لدى الإنسان، فلم تكن لها أية علاقة بسلوك المشتركين في التجربة ،بنفس الشكل الذي يحدد السلوك العنيف للجندي في الحرب، أو ربابنة الطائرات العسكرية الذين يطلقون وابلا من قنابل النابالم على القرى الفيتنامية... فالجندي يقتل بدافع الواجب: واجب الخضوع للأوامر العسكرية.فتعذيب الضحايا لا يجد مبرره في النزوعات العدوانية لدى الجنود ، ولكن من لأنهم مندمجون في بنية اجتماعية هم عاجزون عن الإستقلال عنها،متورطون فيها بشكل يتجاوز قدرتهم على الإنفلات منها ".(9)

كما أن العنف في هده الحالة مبرر لدى من يقوم به ، بل محتاج إلى تبريره : سواءا تحت راية حب الوطن، الواجب، النتائج في حالة رفض القيام بما يطلب منه...إلخ .
وقد بينت تجربة (حدود الخضوع للسلطة) أن الأشخاص الدين ينتمون لأصول اجتماعية محضوضة و الدين يحضون باعتراف اجتماعي معرفي ( دبلومات جامعية مثلا...) رفضوا الخضوع لأوامر القائمين على التجربة وإعطاء الأوامر لإطلاق الشحنات الكهربائية القوية والتي قد تؤدي إلى الموت، فقد كانت لهم الإمكانيات و بالتالي القدرة على الرفض، أي كانت لهم القدرة على مواجهة البنية الإجتماعية الضاغطة.
ما تعلمنا إياه تجربة "ميلغرام"  ,هو أن الظروف التاريخية و الإجتماعية محدد أساسي لظهور العنف ،وبالتالي فيكفي نزع جذور العنف الإجتماعية لكي نجتث العنف من أساسه ، مما يطرح السؤال : كيف نقضي على العنف؟ وما هي الوسائل للقضاء على العنف ؟ وهل يمكن أن نلجأ للعنف كوسيلة لاجتثاث العنف وتحييده ؟ بمعنى آخر هل يمكن أن نستعمل العنف للوصول إلى أهداف يحددها العقل ذاته، ؟ أن يكون العنف في خدمة العقل. أي في خدمة إقامة عالم أكثر إنسانية ،وأكثر عدالة .(10)

 أما المحور الثاني فإن تصورات المفكرين لعلاقة العنف بالتاريخ جاءت بالشكل الأتي:

تبرز فكرة العنف عنه كارل ماركس في الصراع الطبقي عبر تضارب مصالح طبقة بورجوازية مالكة لوسائل الإنتاج, وطبقة أخرى مهيمن عليها لا تملك سوى جهدها العضلي.

ويرى ماركس أن هاتين الطبقتين كانت في صراع دائم تقضي إحداهما على الأخرى أو ينتفيان معا. وأنه منذ العصور القديمة كان المجتمع مقسم إلى طبقات متمايزة حسب سلم تراتيبي, وحتى المجتمع البورجوازي نفسه لم يأتي بالجديد وإنما خلق ظروفا جديدة للاضطهاد. أما روني جيرار فيرجع نشأة المجتمعات إلى صراع الرغبات وتصادمها, وبالتحول من حالة الصراع والعنف إلى حالة السلام يكون المجتمع قدم بآلية التضحية (كبش الفداء) الذي حول الوسيلة لمنع تصاعد العنف الذي سببه التنافس المتسم بالتقليد.(الكتاب المدرسي المباهج).

يعرض فريدريك انجلز دور العنف في التاريخ البشري, ويرى أنه ليس هو محرك التاريخ ويقدم لنا العلاقة التي تجمع بين العنف الاقتصادي والعنف السياسي, إذ يرى أن هناك عنف اقتصادي وعنف سياسي, ويؤكد أن العنف الاقتصادي هو الذي يحدد العنف السياسي لأنه هو الذي يؤدي إلى تطور المجتمع.

ففريدريك انجلز يؤكد ارتباط العنف بتطور النظام الاجتماعي والاقتصادي.

يقوم التصور الفرويدي لمسألة العنف على النظرة التالية, أن الحق ما هو إلا نتاج للعنف, فإذا كان ينظر إلى الحق والعنف على أنهما متعارضين, فإن النظرة التاريخية التحليلية مع فرويد تؤكد أن الحق  نشأ مع العنف وبأنهما غر متناقضين فالحق أو القانون حسب فرويد ضرورة أساسية تصحح العلاقات بين الناس, فالناس يتحدون فيما بينهم من أجل التعايش و التساكن (الكتاب المدرسي الرحاب).

يرجع هوبز العنف في الطبيعة الإنسانية إلى ثلاثة مصادر هي التنافس,الكبرياء, ثم الحذر كوسائل يلجأ إليها الإنسان قصد تحقيق المصلحة والمنفعة.

ويخلص هوبز إلى أن لهذه المصادر غايات تنشدها, فغاية التنافس هي إرادة السيادة على الآخرين, وأن غاية البحث عن الأمن هو الدفاع عن مكب السيادة, وغاية الكبرياء هو تجنب الاحتقار.

ويتجاوز هوبز النظرة التقليدية للحرب والتي يكون القتال فيها فعليا إذ تظهر حرب خفية تتوارى عنه وجود السلطة وبالتالي فالإنسان في حالة استعداد دائم للحرب.

ينطلق فارنييه وتولرا من تصور انتروبولوجي نقدي لأشكال النزعات سواء أكانت داخلية أو خارجية على أنها تخضع لتقنين من حيث الأهداف والوسائل, والثانية يستباح فيها كل شيء على أنه قول قاصر, إذ نتجت الشواهد التاريخية تؤكد هذا التصور (الحروب الداخلية الأوروبية).

وينتهي فارنيه في تحليل لإشكالية العنف إلى أن النزعات المسلحة ليست هدفا بل هي نتاج للتوتر الاجتماعي .(الكتاب المدرسي المنار).

يتضح لنا أن العنف لعب دورا أساسيا في التاريخ, إن على مستوى تنظيم العلاقات الاجتماعية وتوزيع الخيرات وتحديد وضبط الأدوار حيث أن أثر العنف يظهر بكل وضوح على مستوى التطور الاقتصادي, وأيضا في نشأة فكرة الحق. ومن هذا فإننا سنقوم بالوقوف على كل من تنظيرات روني جيرار وتوماس هوبز و كارل ماكس لمعرفة علاقة العنف بالتاريخ البشري.

ترتكز نظرية  روني جيرارعلى حدس رئيسي: وهو أن الرغبات الإنسانية هي رغبات تخضع لقانون المحاكاة، أي أنها رغبات محاكاتية، أو بمعنى آخر أنها رغبات تتجه نحو موضوعات يرغب فيها الناس الآخرون أيضا. وكلما كانت رغبة الآخرين قوية وشديدة كانت رغبة الأنا أيضا قوية وشديدة. وفي خضم هذا التنازع يمكن أن يأتي حين تكون فيه رغبة الآخر في الشيء أهم بالنسبة من الموضوع المرغوب فيه نفسه: وعندئذ يصبح التنافس صراعا شخصيا وتتنامى احتمالات اندلاع عنف مفتوح. إن الصراع الإنساني هو بالأساس نتاج للتنافس. لدى الحيوانات نجد أن الصراعات الناتجة عن التنافس، كالتنافس الجنسي مثلا، تجد حلها، على وجه العموم، عن طريق فرض علاقات سيطرة: فالحيوان الأضعف يخضع للحيوان الأقوى، وينتج عن ذلك استتباب نظام تراتبي مستقر إلى حد ما. أما لدى بني الإنسان فالأمر لا يسير بالطريقة نفسها: ذلك أن الناس لا يخضعون تلقائيا. بل يقومون بأعمال عنف لا تنتهي داخل النوع. وهكذا يمارسون الانتقام المؤجل ويجعلون منه، عبر التقليد والمحاكاة، قضية الجماعة. إن العنف الإنساني إذن عنف معدي: فهو ينتشر في الجماعة من فرد لفرد. وهذا ما يسمى  «أزمة المحاكاة» والتي يمكن أن تؤدي إلى قيام مذابح جماعية. وإذا ما نظرنا إلى هذه المسألة من وجهة نظر التطور، فإنها لن تبدو سمة ملائمة أو جيدة. بالفعل فعلماء المستحاثات البشرية paléoanthropologues    Les يفترضون اليوم أن العديد من المجموعات الإنسانية أو القبل إنسانية ربما تكون قد اختفت فقط نتيجة للعنف الممارس بين بني البشر. وربما كانت استمرارية الجنس البشري وبقاءه مهددين لو لم تكن هناك ميكانيزمات وإواليات لإيقاف دورة الانتقام أو الأزمة العنفية.

وتنظيرات روني جيرار للعنف ثلاثة جوانب :

الجانب الأول هو التنظير لدور العنف في التاريخ وفي سيرورة المجتمعات. وإذا أردنا أن نلطف العبارة فلنقل "سيرورات "، لأنه يصعب على أي كان أن يرصد في نظرية عامة دور العنف تاريخيا وفي المجتمعات الإنسانية. وعلى كل حال، ركز روني جيرار، في هذا المجال أبحاثه، على ما هو معروف ومؤرخ له في مجتمعات عتيقة، وخصوصا في الحضارة اليونانية. وهنا تبقى أمثلته محدودة بالمجال الحضاري المرجعي لنظريته، أما بالنسبة للمجتمعات الأخرى البعيدة عن هذا المجال الحضاري و المختلفة عنه و التي درست من طرف الأنثربولوجيين، فإن نظرية روني جيرار تبقى محدودة. و قد بينت كيف أن تلك الأبحاث الأنثربولوجية تفند الفرضية القائلة بالعنف البدائي المعمم، و كيف أنها ترى أن لا أساس لها من الصحة. (11)

الجانب الثاني: هو دفاع النظرية عن وجود العنف وحضوره في جميع المجتمعات والثقافات. و هذا، طبعا، أمر بديهي. و يمكن تلخيص أطروحة روني جيرار، على هذا المستوى، كما يلي: يسود في البداية، داخل الجماعة عنف معمم ودائم، لهذا فهو من صنف العنف الداخلي، أي ذلك العنف الذي يسكن في النفسية الفردية و الجماعية. ثم تظهر عادة التضحية بشخص ( عادة ما يكون أجنبيا أو غريبا أو أسيرا) تنسب له الجماعة جميع المساوئ والشرور، و جميع الخروقات التي يعرفها المجتمع، و التي يعتقد الناس أنها تهدد كيان المجتمع ( عبر تهديدها للمعتقدات والممارسات المتداولة والمقدسة)، إضافة إلى هذه الخروقات، قد تلصق الجماعة بذلك الشخص الكوارث والأهوال، كالأمراض والمجاعات، و الفياضانات، و الزلازل، و الانهزامات الخ. فيطرد المجتمع ذلك الشخص من المجتمع وينفيه أو يقتله...

يتعود الناس لا شعوريا على هذه "اللعبة" تعودا تاما، و يتم، في زمان ما، استبدال الضحية البشرية بأضحية من الحيوان المدجن، و هو عند روني جيرار "كبش الفداء" أو الذبيحة
أو كما يسميها جيرار الأضحية ويجب التمييز، هنا، بين "لعبة" الأضحية الموجودة والشائعة سواء في الثقافات القديمة أو الجديدة، وبين رصد تكوينها كما تم و كما يأتي به جيرار. و هو ما يطرح إشكالات و تخمينات يصعب على الباحث قبولها كما تطرقت إلى ذلك. (12)

الجانب الثالث: وهو الخاص بكيفية تعامل الثقافات مع مشكل العنف. وهنا نتفق مع جيرار على أن الدين هو المؤسسة الأولى ذات الأهمية القصوى في هذا المجال. فالدين هو أساسا تعامل مع العنف، حيث يوجهه إلى الأضحية أو القربان، وفي نفس الوقت يجعل الإنسان يعترف بذنب العنف ويخترع مؤسسات تبعده منه (العنف). وينبع هذا الطرح من أطروحات فرويد. و يذهب جيرار إلى أن هناك "لعبة" لأن المؤسسة الدينية التي تلعب الدور الأهم في هذا المجال هي مؤسسة الأضحية وتقديم الأضحية استعمال للعنف، و لكنه، في نفس الوقت، "يلعب به" كما نقول في العامية المغربية، فيعدمه ويرسم طرقا أخرى للقوة الكامنة فيه، غير الطرق التي تؤدي إلى تخريب الثقافة والمجتمع. و يتعرف جيرار في المسرح التراجيدي وفنون أدبية أخرى على نفس الدينامية التي تعرف عليها في التضحية بالأضحية الخ. لكن هناك عدة مشاكل يخلقها هذا الطرح. (13)

أما مفهوم العنف عند (هوبز) فيرتبط  بما يطلق عليه (حرب الجميع ضد الجميع)، وهو يزعم ان هذه الحرب، التي تعكس الحالة المعيارية للطبيعة البشرية، تساعدنا على فهم تعبير (العنف) على حقيقته، ولكي يدعم (حتميته) هذه، فهو يضع فرضيات أربعة يقترحها لتفسير العنف. ويستشف من هذه الفرضيات، الطابع السيكولوجي في نموذج ( هوبز)، إذ يمكن للباحث أن يتلمس ملامح السيكولوجيا، في مفهوم العنف عند هذا الفيلسوف. وهذه الفرضيات هي كالآتي :
الفرضية الأولى: أن سلوك الناس إنما تحركه مجموعة من الرغبات تكون مشتركة بينهم جميعا.
الفرضية الثانية: يمكن أن توصف هذه الرغبات، بأنها رغبات (مستبدة) ولا


Votre Commentaire