تعتبر مدينة تارودانت من أقدم وأعرق مدن المغرب، إذ كانت مدينة عامرة منذ أقدم العصور، ولعبت أدوارا تاريخية هامة في تاريخ سوس والمغرب، سواء خلال مرحلة ما قبل الإسلام، أو خلال مختلف مراحل تاريخ المغرب الإسلامي. ومع كل هذا لا نجد من ذكرها في كتب التاريخ ما يلائم هذا القدم وتلك العراقة، ولا ما يناسب ما لعبته هذه المدينة من أدوار في تاريخنا الوطني. وهي وضعية شاذة تجد مبرراتها في الغياب المطلق للبحث الأركيولوجي، وكذا فيما عرفته المدينة عبر تاريخها الطويل من صراعات سياسية ومذهبية حادة، منذ وصول جيوش الفتح الإسلامي (القرن 1هـ/ 7م)، وحتى مطلع العصر الحديث. وهي صراعات تعتبر من بين الأسباب الكامنة وراء إحجام المؤرخين عن الاهتمام بتاريخ المدينة، وعدم طرقه إلا عرضا1، باستثناء مؤرخي الدولة السعدية التي يمثل عهدها عصرا ذهبيا بالنسبة لتارودانت. هذا دون أن ننسى دور العوامل المنهجية المرتبطة بنظرة المؤرخ المغربي التقليدي لعملية التأريخ، وكذا العوامل النفسية السيكولوجية المتعلقة بعزوف السّوسيِّين عن الاهتمام بتاريخهم وجمع أخباره.2
1- ملامح العصر القديم :
لا يمكننا، في غياب البحث الأركيولوجي، أن نحدد تاريخا معينا لتأسيس مدينة تارودانت، لكن مع ذلك باستطاعتنا أن نجزم بأنها من أقدم حواضر المغرب. حيث نجد من الباحثين من أرجع تاريخ تأسيسها إلى ما قبل الإسلام، بل إلى ما قبل الميلاد،3 وحصره آخرون خلال فترة الاحتلال الروماني لشمال إفريقيا4، أي مابين القرن الأول قبل الميلاد والقرن الخامس الميلادي. ويمكن الركون في هذا الباب إلى بعض الإجتهادات التي تجعل هذا التأسيس معاصرا للوجود الفنيقي/ القرطاجي بإفريقيا الشمالية5، أو ربما سابقا عليه. فقد شمل النفوذ التجاري الفنيقي/ القرطاجي عددا من المراكز بالساحل السوسي، وامتد هذا النشاط إلى عدد من المراكز الداخلية، والتي من المرجح أن تكون لتارودانت ضمنها مشاركة ما في هذه التجارة، خاصة وأنها تقع وسط سهل سوس، وعندها تلتقي الطرق الرابطة بين شمال الأطلس والصحراء.6
ومهما يكن من اختلاف بين الباحثين في تاريخ التأسيس، فإن نوعا من الإجماع حاصل حول كون المدينة من تأسيس أمراء قبائل هشتوكة وجزولة ،7 وهي الرواية التي أوردها أبو القاسم الَّزياني،8 ولاقت استحسانا وقبولا من طرف الباحثين المتخصصين في تاريخ المدينة نظرا لما يدعمها من قرائن تاريخية.
هكذا، إذن، ظلت تارودانت ، ولقرون عديدة قبل وصول كتائب الفتح الإسلامي، عاصمة لأمراء هشتوكة وجزولة، ومحورا يستقطب النشاط السياسي والتجاري للقبائل السوسية. وهذه الأدوار لا نعلم الشيء الكثير عن تفاصيلها بسبب غياب التدوين خلال هذه المرحلة من تاريخ المدينة، وهو غياب يجد مبرراته في عوامل كثيرة يمكن أن نورد من ضمنها:
عدم انتشار الكتابات الأمازيغية على نطاق واسع،
اقتصار اتصالات التجار الفنيقيين والقرطاجيين على المراكز الساحلية،
عدم وصول نفوذ الرومان المباشر إلى ما وراء خط "الليمس" جنوبا..9
وهي عوامل ساهمت في حرماننا من توفر أية مصادر معاصرة لهذه المرحلة من تاريخ تارودانت القديم. وقد تكرس هذا الوضع كذلك حتى بعد الفتح الإسلامي، حيث أحجم المؤرخون المسلمون عن الخوض في أخبار المراحل السابقة على الإسلام لأسباب سياسية ودينية.10 هكذا، وأمام الغياب المطلق للتنقيب الأثري، فإن ذاكرة تارودانت لا تبتدئ إلا مع وصول جيوش الفاتحين العرب بقيادة عقبة بن نافع الفهري.
2- الفتح الإسلامي وعصر الولاة:
لا نعلم الكثير عن أخبار تارودانت قبيل الفتح الإسلامي ولكننا، مع ذلك، نجد في سياق حديث المؤرخين ما يفيد أنها كانت مركزا لقيادات محلية تتزعم قبائل سوس، ولذلك فإن دخول قادة الفتح إلى المدينة كان يعني إذعان البربر والسيطرة على بلادهم .11 ولكن هذا الغموض يبدأ في الزوال نسبيا مع وصول طلائع الفتح الإسلامي، حيث نعلم أن الإسلام وصل إلى تارودانت على يد عقبة بن نافع الفهري أثناء ولايته الثانية سنة 62هـ، حيث " انتهى إلى تارودانت وهزم جموع البربر"12. ثم دخلها بعده موسى بن نصير أثناء ولايته ( 86-89هـ). وعندما تولى عبيد الله بن الحبحاب أمر المغرب ( 114هـ ) عين ابنه إسماعيل على سوس وأنزله في تارودانت واتخذها دار إقامته13.
من خلال أخبار الفتح الإسلامي لسوس تتأكد مكانة تارودانت كعاصمة للإقليم ومتجمعا لقبائله،14 ومستقرا لولاته، وبذلك تستمر في لعب دورها كمركز إداري وكمحور مستقطب لمختلف الأنشطة بهذا الإقليم.
لكن من كل تلك الأخبار يتأكد كذلك سوء معاملة قادة الفتح وولاتهم للقبائل الأمازيغية، حيث أمعنوا في سبي النساء، وفرض المغارم، والجور في الأموال.15 وكان ذلك سببا في انضمام تارودانت إلى ثورة الخوارج التي تزعمها ميسرة المطغري سنة (121هـ/739م)16. وفي أخبار هذه الثورة تتأكد من جديد المكانة الإستراتيجية لمدينة تارودانت، وأهميتها في السيطرة على سوس والتحكم في قبائله. حيث بمجرد أن نجح الثوار في السيطرة على طنجة والقضاء على عامل الأمويين بها عمر بن عبيد الله المرادي، تمت مبايعة عبد الأعلى بن جريح، الذي سارع إلى الزحف على سوس بجيوش الثوار الخوارج فدخل تارودانت وقتل عامل السوس إسماعيل بن عبيد الله بن الحبحاب.17 وقد انحسر نفوذ الخلافة الإسلامية بالمشرق عن سوس وعن عاصمته تارودانت منذ هذا التاريخ بصفة نهائية.
مع هذه الأحداث ستدخل أخبار تارودانت في دوامة من الغموض والاضطراب، وبصفة خاصة بعد أن دخلت تحت نفوذ البرغواطيين على يد أميرهم إلياس بن صالح ( 128-176هـ)18. فقد جرت عادة المؤرخين الرسميين على النفور من الحديث عن أهل المذاهب الثورية، والمعارضة للدولة التي يعيشون في كنفها، فلا تدخل عندهم حيز التاريخ إلا اضطراراً مع ما يلحق أخبارها عندهم من بتر وتشويه.19
3- تارودانت والدولة المغربية الوسيطية:
في عهد الأدارسة:
اهتم المولى إدريس الثاني منذ توليه بتوسيع حدود الدولة التي ورثها عن أبيه، في محاولة للسيطرة على أهم محاور التجارة العابرة للصحراء واستقطابها نحو عاصمته فاس. وفي هذا الإطار وجه حملاته العسكرية جنوبا نحو بلاد المصامدة منذ سنة 197هـ فافتتحها20. هكذا دخلت تارودانت في نفوذ الأدارسة، وقد استمرت ضمنه في عهد محمد بن إدريس الذي عين أخاه عبد الله بن إدريس على جبال المصامدة والسوس الأقصى، وجعل مقره بمدينة أغمات.21
ظلت تارودانت خلال هذا العهد تابعة من الناحية الإدارية لأغمات، ففقدت بذلك مكانتها كعاصمة جهوية ومقرا للولاة، لكن هذا الوضع لم يفقد المدينة أهميتها الاقتصادية حيث كانت تتحكم في محاور تجارة الذهب التي تربط المغرب بإفريقيا جنوب الصحراء.22 ولعل هذه المكانة المتميزة هي التي تفسر لنا اهتمام البرغواطيين باستعادة نفوذهم على تارودانت بعد أن أمضت ما يزيد عن قرن من الزمان تحت النفوذ الإدريسي.
عادت تارودانت إذن من جديد إلى المذهب الخارجي في ظل حكم البرغواطيين مع نهاية القرن الثالث الهجري، واستمرت على ذلك إلى منتصف القرن الرابع حيث انتشر بها المذهب الشيعي بدعم ومباركة من الفاطميين.23 وسرعان ما تحولت المدينة إلى جزيرة للشيعة الروافض البجلية، وسط محيط من القبائل السوسية السنية. وهو ما يفسر اضطراب أخبار المدينة منذ هذا التاريخ، حيث طغى العداء المذهبي على مواقف وروايات المؤرخين ليضيع علينا فرصة رصد تفاصيل وتطورات فترة جد هامة من تاريخ هذه المدينة.
تحت حكم المرابطين:
ظلت القبائل السوسية تحت تأثير فقهاء جزولة السنيين، وعلى رأسهم الشيخ وجاج بن زللو اللمطي24، تعمل بكل الوسائل على حصار أعدائها المذهبيين من الشيعة البجليين بتارودانت. لذا ما إن نجح عبد الله بن ياسين الجزولي _ تلميذ الفقيه وجاج بن زللو _ في جمع قبائل صنهاجة في إطار الحركة المرابطية، حتى توجه صحبة حليفه أبي بكر بن عمر اللمتوني نحو تافيلالت فأخضعاها، ومنها توجها إلى السوس حيث كان فقهاؤه يستعجلونهما للقضاء على شيعة تارودانت، فتم لهم ذلك سنة 448هـ/ 1056م. هكذا عادت تارودانت تحت النفوذ المرابطي إلى مذهب أهل السنة،25 وعرفت استقرارا سياسيا وازدهارا اقتصاديا ونهضة عمرانية. وأصبحت مركزا إداريا يتحكم بواسطتها المرابطون في شؤون سهل سوس وجبال درن، وقد عين عليها يوسف بن تاشفين ابنه تميم واليا.26 استأنفت المدينة منذ هذا التاريخ دورها كنقطة التقاء للطرق التجارية الآتية من جنوب الصحراء، وهو ما جعلها تستقطب عناصر بشرية متنوعة الأصول ( أندلسيين ، أفارقة زنوج ..)، وتشهد رواجا تجاريا وحرفيا هاما. فنالت في عهد يوسف بن تاشفين و عهد ابنه علي بن يوسف عناية خاصة، حيث اهتما بتحصينها و استصلاح أراضيها الفلاحية،27 وإلى هذا العهد يرجع سور المدينة القديم الذي ورد ذكره عند ابن الزيات.28
وقد تأكدت الأهمية الإستراتيجية لتارودانت خلال هذا العصر كذلك، حيث أصبحت قاعدة عسكرية متقدمة لمراقبة قبائل المصامدة بالأطلس الكبير، وبها كانت تستقر القوات المرابطية التي كانت تخرج لمحاربة أنصار ابن تومرت عند بداية أمر دولة الموحدين.
في عهد الموحدين:
عاشت تارودانت أواخر عصر المرابطين جوا مشحونا بالصراعات، فبعد وفاة ابن تومرت استمر خلفه عبد المومن بن علي الكومي في توجيه حملاته العسكرية لاستنزاف القوات المرابطية بسوس. وبعد أربع سنوات نجحت عساكر الموحدين في دخول تارودانت سنة 528هـ، ثم ما لبثوا أن انسحبوا منها بعد أن غنموا وسبوا. وقد عاد عبد المومن ليقتحمها بصفة نهائية سنة 535هـ/ 1140م، وباستسلامها انقادت كل قبائل السوس للموحدين بعد أن قضوا على ما تبقى من فلول القوات المرابطية بالحصون والقلاع المحيطة بتار ودانت، وخاصة حصن (تين واينان).
بعد أن تمكن عبد المومن من إرساء دعائم دولته والقضاء على مناوئيه من الثوار والمطالبين، قام برحلة إلى السوس لتفقد الأحوال وتهدئة النفوس سنة 550هـ. ومن خلال أخبار هذه الرحلة تأكدت من جديد أهمية تارودانت كقاعدة تاريخية ومتجمع للقبائل السوسية، حيث اختارها عبد المومن للقاء الوفود المهنئة، واستقبال شيوخ القبائل فوجا بعد فوج.
عرفت تارودانت بعد هذا التاريخ استقرارا سياسيا ورخاء وازدهارا، واستعادت دورها كعاصمة إدارية لسوس حيث اتخذها الموحدون دارا لولاتهم، ومستقرا لعساكرهم التي تراقب الإقليم. وقد جرت عادتهم على تعيين ولاتها من ضمن أمرائهم أو كبار رجالاتهم المخلصين، وذلك منذ أن عين عليها عبد المومن بن علي ابنه عبد الرحمن بن اللمطية سنة 548هـ.29 وكان من الطبيعي أن تنتعش تجارة تارودانت بعد تمهيد السبل وتأمين الطرق، وازدهرت بها الزراعات المختلفة والحرف المتنوعة، فاشتهرت بوفرة منتوجاتها ورخص أسعارها وقصدها التجار من الآفاق. وقد تركت المدينة خلال هذه الفترة أثرا بالغا في نفوس زوارها من الرحالة والمؤرخين ، خاصة الشريف الإدريسي30، وابن عذاري.31 ولا يستبعد الأستاذ أحمد بزيد أن تكون تارودانت قد عرفت في عهد الموحدين عناية كبيرة بحركة العمران، على ما هو عليه دأب الموحدين في باقي مناطق المغرب. لكن مظاهر هذه العناية قد تكون طمست أثناء ثورة علي بن يدر الزكندري ( 651هـ/ 1253م) والذي خرب المدينة، وأزال أسوارها، واستأصل معالمها، وهدم دورها.32 وقد استمر عبث ابن يدر وأنصاره بالمنطقة وأهلها إلى حدود (665هـ/1266م)، عندما دخل الخليفة الموحدي الواثق تارودانت وحاصر ابن يدر في حصن تين واينان، ثم تراجع عنه بعد إعلان الثائر خضوعه. لكنه سيعود من جديد إلى الاستئثار بتارودانت بعد مقتل الواثق ودخول المرينيين مراكش سنة (668هـ/ 1269م).33
خلال عهد المرينيين و الوطاسيين:
تمكن المرينيون من دخول تارودانت سنة 668هـ 34، ونجحوا في القضاء على الثائر ابن يدر، لكنهم لم يفلحوا في القضاء على ثورته. وقد ظلت سلطتهم بسوس، منذ هذا التاريخ، وإلى حدود وفاة السلطان المريني يعقوب بن عبد الحق سنة 685هـ، بين أخذ ورد. حيث كان عليهم أن يبعثوا، بين الفينة والأخرى، حملات عسكرية لاستتباب الأمن بهذا الإقليم، الذي لم تنطفئ به شرارة ثورة بني يدر بتارودانت، ولا فترت به عزائم عرب المعقل الذين بسطوا نفوذهم على الأراضي والسكان وتحكموا في المسالك والطرق. وفي هذا الإطار تندرج حملات 671هـ ، 673هـ ، 681هـ و683هـ35. وبعد فترة صمت طويلة تطالعنا المصادر من جديد سنة 742هـ بمحاولات السلطان أبي الحسن تقليم شوكة عرب المعقل، واستعادة نفوذ الدولة بسوس وعاصمته تارودانت. وهو الأمر الذي سيتكرر في عهده سنة 751هـ، وفي عهد ابنه أبي عنان سنة 756هـ، هذا الأخير الذي سيضمن تبعية تارودانت إلى حين وفاته سنة 759هـ، لينحسر نفوذ آله بني مرين عن المنطقة بصفة نهائية.
ظلت تارودانت طيلة هذا العصر، بالرغم من اضطراب أوضاعها السياسية، محتفظة بزعامتها للقطر السوسي على كل المستويات السياسية والإدارية والاقتصادية. فقد اتخذها بنو مرين، أثناء فترات نفوذهم، مركزا لإقامة نائب السلطان في هذا الإقليم،36 وحين يعود آل بني يدر إلى الظهور يتخذونها دار ملكهم .37 ولا شك فقد عرفت المدينة خلال هذا العصر تجاذب عوامل الهدم والبناء مما أثر على وضعها العمراني، فقد اهتم بنو مرين بتعميرها وبنوا بها قصبة سلطانية،38 بينما عاث فيها الثائر ابن يدر وخرب معالمها.39
لم يحالف الحظ بني وطاس ليبسطوا نفوذهم نحو السوس، بل إن سلطتهم كانت تتقلص أحيانا لتقتصر على ضواحي مدينة فاس. وهكذا ظلت تارودانت منذ نهاية المرينيين مستقلة عن أية سلطة مركزية،40 لكنها عانت كثيرا من الخضوع لنفوذ القبائل العربية التي بسطت سيطرتها على السهول، وفرضت على سكان المدينة خراجا كثيرا مقابل تأمين الطرق التجارية.41 وإذا كان من الصعب علينا أن نرسم صورة مفصلة عن الأوضاع الحضارية العامة بالمدينة خلال هذه الفترة الغامضة، بسبب اضطراب الاوضاع العامة بالمنطقة وبالمغرب كافة، وكذا بسبب غياب المصادر المتنوعة، فإنه يمكننا مع ذلك كله أن نجزم باستمرار تارودانت في لعب دورها الإشعاعي كمركز حضاري واقتصادي هام رغم ما تعرضت له معالمها من خراب. فابن خلدون يحدثنا عن انتشار زراعة قصب السكر،42 بينما يشير الحسن الوزان (ليون الإفريقي) إلى كثرة الصناع بالمدينة التي وصفها ب المدينة العظيمة)، بينما وصف سكانها بأنهم (أكثر تحضرا).43 كما يمكننا الاستدلال على هذا الطرح بنجاح المدينة في التأقلم مع وضعية الاستقلال التي عاشتها قرابة قرنين من الزمن، فقد نجح سكانها في إقامة نظام سياسي خاص بهم بلغ درجة عالية من التطور والرقي، ترك لنا الوزَّان بعض معالمه عندما زار المدينة في مطلع القرن (10هـ/ 16م)، حيث قال: « تخضع ترودانت لحكم الأعيان ويتداول أربعة منهم مجتمعين السلطة لمدة لا تزيد عن ستة أشهر. وأهل ترودانت أناس مسالمون لا يسيئون إلى جيرانهم. »44.
وبالرغم من محاولات التأقلم هذه، فإن المدينة لم تسلم من آثار أزمة التجارة القافلية، المترتبة عن الحصار الذي ضربه الإيبيريون على السواحل الأطلنتية المغربية، منذ احتلال البرتغاليين مدينة سبتة سنة818هـ/ 1415م). فقد وقعت المنافذ التجارية البحرية السوسية (أكادير(سانتا كروز)، ماسة) بدورها تحت النفوذ البرتغالي، وهو ما أقنع قبائل سوس بالتجنيد للجهاد تحت راية الشرفاء السعديين الذين تمت مبايعتهم لهذا الغرض.45 ولم تكد تمضي على هذه البيعة، التي تمت سنة (916هـ/ 1510م)، إلا بضع سنوات حتى بايع أهل تارودانت السعديين ودخلوا في طاعتهم سنة (920هـ/ 1515م)، لتدخل معهم تارودانت أبهى وأزهى عصور ازدهارها ورقيها، فأمست أحد الأقطاب الثلاثة التي طبعت الحضارة المغربية في كل مستوياتها خلال العصر الحديث،و هذه المراكز هي : تارودانت، مراكش وفاس.
4- تارودانت خلال العصر الحديث :
في ظل الدولة السعدية:
بدخول تارودانت في بيعة السعديين ( 920هـ / 1515م) ستدخل عصرها الذهبي، حيث سرعان ما أصبحت أولى عواصمهم، قبل انتقالهم إلى مراكش (930هـ/ 1524م). وقد قام الأمير محمد الشيخ منذ هذا التاريخ بتحصين المدينة، وجدد معالمها، وزودها بعدد من المباني الفخمة،46 فأصبحت من حينها تنسب إليه، وعرفت خلال هذا العصر « بالحضرة المحمدية » .
وعلى عكس ما جرت عليه عادة المؤرخين من قبل، فإن اسم وأخبار المحمدية ستتردد كثيرا في مؤلفات هذا العصر. وهو أمر يعكس بجلاء مدى أهمية الأدوار التي أصبحت تضطلع بها المحمدية خلال عصر الشرفاء السعديين من جهة، ومدى ارتباط السعديين وعنايتهم الكبيرة بأولى عواصمهم ومنبت دولتهم.
تعددت أدوار تارودانت أيام السعديين، واحتلت مكان الريادة بين نظيراتها من مدن المغرب العتيقة على عدد كبير من المستويات. فقد اتخذها السعديون عاصمة في بداية دولتهم، وقاعدة محصنة لاستجماع قواتهم، وإمكانيات القبائل المبايعة لهم، قصد مواجهة الاحتلال الإيبيري لسواحل سوس والمغرب عامة.
وعرفت الحياة الاقتصادية بالمدينة انتعاشا لم يسبق له نظير، فقد اهتم السعديون بالسيطرة على طرق التجارة الصحراوية ومراقبتها، عبر تحويلها نحو توات، تافيلالت، وبصفة خاصة نحو تارودانت.47 حيث أصبحت هذه الأخيرة أهم المراكز المتحكمة في طرق التجارة القافلية، فقصدها التجار المسلمون والأوربيون، وخاصة منهم الإنجليز، واشتهرت ببضائعها المتنوعة: كالأواني النحاسية،و الأنسجة الصوفية، والمصنوعات الجلدية، وبصفة خاصة السكر الذي لم يكن بإمكان القصر الإنجليزي الاستغناء عنه.48
كان رواج التجارة عاملا ساعد على ازدهار الصناعات الحرفية المختلفة، ومن أشهرها صناعة النسيج التي كانت تنتج الأنسجة الصوفية والحريرية،49 والصناعات المعدنية المختلفة والتي اشتهرت منها على الخصوص صناعة الأواني النحاسية والبرونزية.50 وتعتبر صناعة السكر أهم وأشهر الصناعات التي عرفتها تارودانت، والمغرب عامة خلال هذا العصر، وقد تركزت أهم معاملها على مشارف المدينة بمنطقتي أولاد مسعود وتازمورت،51 وقد أشار تقرير مؤرخ ب 25 أكتوبر 1598 - وهو لأحد الجواسيس الإنجليز الذين زاروا المدينة- إلى أن السلطان المنصور كان يجني من وراء هذه الصناعة أزيد من 800.000 مثقال في السنة.52
لقد انعكس الرخاء الاقتصادي على الأوضاع العمرانية للمدينة، وجاء لينضاف إلى تلك العناية الخاصة التي أولاها السعديون إياها، فشهدت حركة تعمير واسعة النطاق وتوافر لها من البنايات الفخمة، والمنشآت الضخمة، ما جعلها تفوق العواصم التقليدية الأخرى (فاس ومراكش) رونقا وبهاء.53 بل ونافستهما على مستوى ازدهار الحركة العلمية والثقافية، فسرعان ما تحول الجامع الكبير، إلى إحدى أهم جامعات المغرب في هذا العصر وأمه الطلبة من مختلف الآفاق، كما انتصب للتدريس فيه ثلة من كبار علماء المغرب خلال القرن 16م ونذكر من جملتهم : سعيد بن علي الهوزالي، عبد الرحمن بن عمرو البعقيلي، عيسى بن عبد الرحمن السكتاني، عبد الرحمن بن محمد بن الوقاد التلمساني، يحيى بن عبد الله الحاحي... وقائمة أساتذة هذا الجامع أحق بأن يخصص لها مصنف خاص في عدة مجلدات.
إذا كان القرن 10هـ/16م قد حمل في طياته معالم الازدهار والرخاء، فإن تارودانت ستشهد مع مطلع القرن الموالي إحدى أكبر نكباتها، فقد ضرب المغرب طاعون جارف كان السلطان أحمد المنصور نفسه أحد ضحاياه سنة ( 1012هـ/ 1603م). وكان وقع هذا الطاعون وخيما في تارودانت، حيث لم يزل يضرب المدينة سنة بعد أخرى مدة اثني عشر عاما، حتى استولى عليها الخراب وهجرها جل سكانها.54 وقد كان هذا الطاعون أحد الأسباب التي ساهمت في تفكك المخزن السعدي، حيث سرعان ما انهار ذلك الصرح العظيم الذي بناه أحمد المنصور، وتقاتل أبناؤه على العرش، فانقسم المغرب إلى مملكتي فاس ومراكش. وظلت تارودانت تحتفظ بمكانة متميزة داخل مملكة مراكش، فإليها كان السلطان زيدان بن المنصور يلجأ، وبها يحتمي، وفيها يستجمع قواه كلما داهمه خطر أو هدده منافس، إلى أن انتهى حكم الشرفاء السعديين لتدخل المدينة من جديد مرحلة من الاستقلال.
تارودانت ومرحلة التجزئة :55
ظلت تارودانت وفية لبيعة السلطان زيدان ابن أحمد المنصور، بل ظلت ملاذه وملجأه كلما ألم به خطر أو هدده منافس: فبتارودانت استجمع قواه يوم عاد خائبا من عند أتراك الجزائر سنة 1604م، وإليها تراجع بعد هزيمته أمام قوات ابن أخيه عبد الله بن المأمون بمراكش سنة 1607م، وفيها استأمن على نسائه وعياله و كل ثروته، يوم أخرجه الثائر ابن أبي محلى من عرشه بالقصر البديع بمراكش (1022هـ/ 1613م). بل إن سكان تارودانت والقبائل المحيطة بهم هم الذين تجندوا وراء الشيخ أبي زكريا يحيى الحاحي يوم هزم الثائر المذكور بمعركة جليز، وأرجع زيدان إلى عرشه 1613م. غير أن إخلال زيدان بشروط اتفاقه مع الشيخ يحيى الحاحي، والذي على أساسه هب لنصرته، جعل هذا الأخير يخلع بيعته ويخرج من طاعته، فأعلن نفسه أميرا على تارودانت وما يحيط بها. وهكذا تأسست إمارة الحاحيين بتارودانت فيما بين: (1023_1039هـ/ 1613- 1629م)، وقد ظل مؤسسها يحيى بن عبد الله يحاول توسيع نفوذه، على حساب زيدان بمراكش وأبي حسون السملالي (بودميعة) بإليغ، إلى أن توفي سنة : (1035هـ/ 1626م)، بعدما عرفت الإمارة في عهده استقرارا ورخاء، وحركة علمية نشيطة. ولا عجب، فيحيى هذا فقيه محدث، وعالم مشارك، وقطب صوفي مشهود له ولآله بالولاية، هب للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسعى إلى إجراء الأمور على منهجها الشرعي، وفق ما تمليه عليه مكانته العلمية، و طبقا لما يقتضيه واجب العلماء تجاه الأمة.
ظل أبو حسون السملالي -أمير إليغ - يتحين الفرص للسيطرة على تارودانت، لكن قوة ورباطة جأش الشيخ يحيى قامت دائما حائلا بينه وبين مراده هذا. وهكذا كان عليه أن ينتظر وفاة يحيى ليخلو له الجو ويحقق مبتغاه، فقد دخلت تارودانت تحت سيطرته منذ (1039هـ/ 1629م)، وعانى سكانها كثيرا من جور واعتساف ولاته56 وخلفائه، إلى أن قضى المولى الرشيد العلوي على إمارتهم: عندما شتت جموعهم وهدم عاصمتهم إليغ سنة (1081هـ/ 1670م). وكان قبل ذلك قد دخل تارودانت في نفس السنة وأخضعها57، لتدخل منذ ذلك التاريخ تحت نفوذ الدولة العلوية.
تارودانت في ظل الدولة العلوية:
منذ دخولها تحت طاعة العلويين اتخذها هؤلاء قاعدة للسوس، ودارا ومستقرا لخليفة السلطان عليه. ولم يكن يتولى هذا المنصب إلا أفراد الأسرة العلوية من إخوة وأبناء السلاطين. ونظرا لما كانت توفره المدينة من موارد اقتصادية مهمة: تجارية، فلاحية وحرفية، وكذا نظرا لموقعها الإستراتيجي وسط سهل سوس المحصن بسلسلتي الأطلسين الكبير والصغير، فإن هذا الوضع غالبا ما كان يغري هؤلاء بالاستقلال عن نفوذ الدولة المركزية والدعوة لأنفسهم.
ففي سنة ( 1096هـ/ 1685م ) بلغ السلطان المولى إسماعيل أن أخاه المولى الحران، وابن أخيه المولى أحمد بن محرز دخلا قصبة تارودانت واستحوذا على إقليم السوس الغني. فزحف السلطان بجيشه إليهما وحاصر المدينة إلى أن قضى على هذه الثورة بعد حروب طاحنة، ودمار شامل سنة ( 1098هـ/1687م ).58
تولى المولى محمد العالم أمر تارودانت نيابة عن أبيه المولى إسماعيل، وقد عادت المدينة في عهده إلى ما كانت عليه من الاستقرار، ونشطت بها كراسي العلم وحلقات الأدب، وتحول مجلس هذا الأمير إلى ناد أدبي، انعقدت فيه المناظرات بين شعراء المدينة ومن كان يفد عليهم من شعراء العاصمة مكناس، وفاس وغيرها من كبريات حواضر المغرب. لكن هذا الأمير مافتئ بدوره أن ثار على أبيه ودعا لنفسه سنة ( 1114هـ/ 1702م)، فبعث المولى إسماعيل ولده المولى زيدان لحصار أخيه بتارودانت إلى أن تمكن من اقتحامها (في صفر من سنة 1116هـ ) بعد ثلاث سنوات من الحروب، وقد لحقت بعلماء المدينة وأعيانها محنة كبيرة من جراء التفافهم حول الأمير العالم وتأييده .59
وقد عين المولى إسماعيل ابنه المولى عبد الملك على المدينة سنة (1134هـ/ 1721م) واستمر بها إلى ما بعد وفاة والده، حين عزل عبيد البخاري أخاه أحمد الذهبي، وبايعوه وهو على ولاية تارودانت سنة: (1141هـ / 1728م ).60
وقد استمرت أوضاع المدينة مضطربة باضطراب أوضاع المغرب- بعد وفاة المولى إسماعيل- إلى دخلها المولى محمد بن عبد الله (1169هـ / 1756م) عندما غزا السوس، وجعلها مقرا للحامية. فعرفت المدينة في عهده استقرارا، وعين عليها من يثق بهم من آل بيته، ومنهم ابنه المولى عبد السلام سنة ( 1199هـ/ 1785م).61
ظلت تارودانت خلال هذا العهد كذلك مستقرا للقواد والباشوات المخزنيين المعينين على سوس، لكنها- مع ذلك - فقدت الكثير من أدوارها ومن رونقها بفعل ما شهدته من حروب وصراعات حادة، خاصة خلال القرنين : ( 17 و 18م )، وهو ما كان سببا في انهيار الأسس التي انبنى عليها رخاؤها الاقتصادي، ومنها بصفة خاصة صناعة السكر. كما أن تحول الطرق التجارية، واستقطاب الأوربيين لتجارة السودان نحو المراكز التي أقاموها بسواحل إفريقيا الغربية عند استعمارها، ساهم في توقف القوافل التجارية التي كانت ترد نحو تارودانت. منذ هذا التاريخ ظلت ثروة تارودانت منحصرة في نشاطها الفلاحي، والذي بدأ يتركز تدريجيا حول شجرة الزيتون، حيث أصبحت تشكل عصب ثروة سكان المدينة. وإلى جانب إنتاج زيت الزيتون والمتاجرة فيها، لم يفقد حرفيو المدينة خبراتهم الصناعية الضاربة في القدم، وخاصة في مجال صناعتي النسيج والجلود، رغم المنافسة الحادة التي بدأت تعرفها الصناعتان من جرّاء تدفق المنتجات الصناعية الأوربية.
ومن حسن الحظ أن حفظ لنا العلامة المختار السوسي، في رحلته الرابعة من موسوعته "خلال جزولة"، قائمة بأسماء القواد المخزنيين الذين تعاقبوا على حكم المدينة62 إلى حين سقوطها تحت نفوذ سلطات الحماية الفرنسية. ونذكر من ضمن هؤلاء: القائد محمد بن يحيا أغناج والذي بقي بالمدينة إلى حدود ( 1236هـ/ 1821م)، ثم القائد حمّاد بومهدي الهواري والذي امتد نفوذه بسوس من تارودانت وأكادير إلى سكتانة وواد نون، وقد استمر في الحكم إلى أن سجنه المخزن فيما بعد ( 1264م/ 1848م ).63 ثم توالت على المدينة بعد هذا التاريخ سلسلة من القواد كان أشهرهم: الباشا محمد بن بوشتا ابن البغدادي، الذي اشتهر فيما بعد بفاس، والباشا حمو الشهير، الذي أزاحه عن مكناس إليها الصدر الأعظم أحمد بن موسى، وكانت وفاته بها سنة (1318هـ/ 1900م). وقد ثار بها الباشا الكَابَّا على نفوذ حيدة بن مايس، واستمر في حكمها إلى أن قتل، بعد استيلاء أحمد الهيبة على تارودانت. ثم ما لبثت المدينة أن عادت إلى نفوذ آل حيدة64 الموالين للفرنسيين، بعد انهزام الهيبة أمام قوات الفرنسيين، التي يتقدمها التهامي الكلاوي سنة (1331هـ/ 1913م).
أمضت المدينة سنوات عصيبة تحت نفوذ ضباط الشؤون الأهلية الفرنسيين، الذين كانوا يمثلون سلطات الحماية الفرنسية. وقد تبلور في أوساط شباب تارودانت - منذ الأربعينات - وعي سياسي مرهف، على يد وطنيين من أمثال القاضي سيدي رشيد المصلوت، جعلهم ينخرطون في صفوف حزب الاستقلال. ومع بداية الخمسينيات دخلت بها الحركة الوطنية بالمدينة منعطفا حاسما، حيث تبنت خيار المقاومة المسلحة على يد قادة شبان وطنيين نذكر من ضمنهم : مولاي عبد الحفيظ الواثر، سي محمد بن إبراهيم برهان الدين، الحاج حسن اللودعي، مولاي رشيد السملالي...65 وقد انخرط جل هؤلاء في الحياة السياسية لما بعد الاستقلال، وناضلوا من أجل بناء المؤسسات الديمقراطية الحرة، وقدموا من أجل ذلك تضحيات جسام ساهمت في تعبيد الطريق التي ولج منها المغرب عهد التحول الديمقراطي الذي يعيشه في وقتنا الراهن.